شعار قسم مدونات

أمانة الدهر وامتحان العصر

فلسطينيون يعتلون دبابة إسرائيلية غنموها يوم السابع من أكتوبر خلال الهجوم المباغت للمقاومة (أسوشيتد برس)

نعيش هذه الأيام استهلال شهر رمضان العظيم، شهر سجل فيه المسلمون أعظم الانتصارات في مجال الحضارة والعلم والأدب والانتصارات المادية والمعنوية على مدى مئات الأعوام، لكننا نقف على أبوابه بحمل يتثاقل مع الزمان، ومع ذلك الحمل تنحني ظهور جيل بعد جيل، لا لشيء إلا لأن الأمة الإسلامية تعيش دون جوهرتها المقدسية منذ ما يقارب سبعين سنة.

هذا بذاته ليس جديدا، فقد خضنا اختبارات كهذه سابقا في حياة أمتنا، فنجحنا مرات وفشلنا سواها، إلا أن المخيف أن بعضنا قبل الواقع، بل ربما زاد على هذا فحاول ترسيخ ذلك الواقع الذي نتخلى فيه عن كرامتنا ومقدساتنا. وحاول أن "يطبّع" العدوان والمجازر والمقاتل. والحقيقة أن لفظة التطبيع في هذا السياق لفظة عجيبة، فالتطبيع إعادة الأمر إلى طبيعته، وأولئك الذين يطبعون يريدون عودة الأمور إلى طبيعة اخترعوها هم وعملوا على اقناع الناس بها. فمنذ متى والطبيعة هي أن تكون مقدساتنا مهددة، وشعوبنا مبددة، وأمهاتنا باكية، وبناتنا من الجوع شاكية، وأولادنا في موت ودمار وخراب، وآبائنا في السجون ينالون من أنواع العذاب؟! إن الاعتقاد بطبيعية هذا الحال -لعمري- دافع إلى الشك في عقل المطبّع وصحة حواسه الأساسية.

الهزيمة في قاموس المسلمين ليست خسارة الأرواح أو هدم البيوت -على عظم ذلك- بل هي خسارة القضية والقيمة والمعنى.

هذه الأمانة العمرية والمنقذة الصلاحية، تقف شاهدة على فشل مستمر لأمة المليار نفس، فالهزيمة العسكرية شيء، والهزيمة المعنوية والحضارية شيء آخر تماما. لقد هزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواقع وأيام، إلا أن تلك الهزيمة لم تعد على ذواتهم وقيمهم ودينهم بالتشكيك والتسفيه، بل ما زادتهم الهزيمة إلا إصرارا على السعي نحو إحقاق كلمة الله في أرض الله. فالهزيمة في قاموس المسلمين ليست خسارة الأرواح أو هدم البيوت – على عظم ذلك- بل هي خسارة القضية والقيمة والمعنى.

يعيش إخوتنا في غزة هذه الأيام مذابح مستمرة على مرأى ومسمع من العالم، الذي وضع بينها وبينه ستارا رقيقا ليحاول نسيان ضميره. وفي ذات الوقت نحن على موعد مع الانتهاكات السنوية الرمضانية لقطعان المجرمين على أرض قدسنا الحبيبة ومسجدنا الأقصى السليب. ونحن أمة الإسلام أمام صفحة أخرى من اختبار طال، كتبنا فيه بعض إجابات بيضت وجوهنا، إلا أن معظم صفحاته سوداء، فما سيكون جوابنا في هذه الصفحة القادمة؟

صحيح أن النضال ليس عملا ذا ثمرة عاجلة، إلا أن المحتلين لم ينالوا منا في يوم وليلة، بل بذلوا أجيالا تتلوها أجيال، وأموالا تسندها أموال، ليصلوا إلى ما وصلوا إليه اليوم، فهل نطمع أن نصل إلى ما وصلوا إليه بفرقعة أصبع أو دعوة خالية عن العمل؟

ليس أمامنا إلا جوابان: إما أن نحتمل الأمانة كما حملناها، ونبدأ -على الأقل- بخطوات جادة على مستوى الأفراد والمجتمعات والدول لنعيد الوعي بقضيتنا، كي لا ينسى الأجيال ولا يهمل اليافعون، لنكون خطوة على الطريق، ولبنة في سلالم الوصول وبذرة في بستان النضال. وإما أن ننظر وننتظر، ونهدم بيوتنا بأيدينا ونتوضئ بدماء إخوتنا ونرقص على أشلائهم، وننثر رمادهم على تلال من الفراغ، ثم نفخر بأننا بقينا على قيد الحياة.

صحيح أن النضال ليس عملا ذا ثمرة عاجلة، إلا أن المحتلين لم ينالوا منا في يوم وليلة، بل بذلوا أجيالا تتلوها أجيال، وأموالا تسندها أموال، ليصلوا إلى ما وصلوا إليه اليوم، فهل نطمع أن نصل إلى ما وصلوا إليه بفرقعة أصبع أو دعوة خالية عن العمل؟

إننا منذ سبعين عاماً ننظر إلى أقصانا مطأطئي الرؤوس، وندخله مما يُسمح لنا من أبواب، وما ذلك إلا لأننا ضيعنا أمانة سلمها إيانا الأجداد، إلا أن تلك الأمانة العظيمة أكبر من أن يحملها جيل واحد، وأثقل من أن ينوء بها كتف جماعة أو دولة، إنها أمانة دهرنا، وامتحان عصرنا، وقد أشار صاحب الامتحان بالبدء بالإجابة، فدعونا ننظر إلى أوراقنا فنسود أسطرنا ونبيض وجوهنا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.