شعار قسم مدونات

التأثير والمؤثرون!

المأثرين في وسائل التواصل الاجتماعي
نشأ سوق للتسلية قدم فيه الإنسان لنفسه في السنوات الأخيرة مليارات المواد التي تهدف إلى خطف اهتمام المشاهد وتسليته عما يعيشه (شترستوك)

يميل الناس في زمن الأزمات إلى أولئك الذين يمدونهم بالأمان أو يمنحونهم الأمل في المستقبل، فالنفس تبحث عمن يحول الفوضى إلى النظام أو على الأقل يعدها بأن النظام قادم بطريقة أو بأخرى، لذلك كنا نرى عودة كبرى باتجاه الشخصيات ذات الحضور والمعلومة أو القدرة على القيادة في تلك الأوقات. وهذه المعادلة فيها طرفان؛ طرف يتلقى الشعور بالأمان أو الأمل، وطرف آخر يتلقى شعوراً بالأهمية والاعتراف بالمكانة. وبما أن فاقد الشيء لا يعطيه، فالطرف الثاني يفترض به أن يكون متحققا بالأمان أو الأمل -أو على الأقل بوهمهما- وإلا كان خطابه مهزوزا متهلهلا، والخطاب المهزوز لا يؤثر في الجماهير، بغض النظر عن صحة الخطاب أو خطئه.

تدربت البشرية مع الوقت على أن تعطي الأهمية لمن يعطي قيمة عليا لحياتها، وهذه الأهمية تعطى بقدر تلك القيمة. وقد كان جزء مهم من معركة الأنبياء عليهم السلام مع أقوامهم تغيير هرم القيم لديهم

هذه المعادلة ممتدة فيما نعرفه من تاريخ، حتى أقدم المجتمعات التي بدأت تحكم بشكل جماعي كالفينيقيين واليونان وغيرهم كان لديهم ظروف خاصة يعلنون فيها اللجوء إلى شخصية قوية تفرض وجودها لتحافظ على وجود المدينة، وكان هذا الرجل يستمد تأثيره أساسا من الوعد بالحماية والأمن وفرض النظام في وقت سادت فيه فوضى ما أو هددت أسوار المدينة عساكر أجنبية. بالمقابل يعطيه سكان المدينة سلطة مطلقة، ليفعل ما يشاء بهم وبمدينتهم حتى يصلوا معا إلى بر الأمان.

إذن، فقد تدربت البشرية مع الوقت على أن تعطي الأهمية لمن يعطي قيمة عليا لحياتها، وهذه الأهمية تعطى بقدر تلك القيمة. وقد كان جزء مهم من معركة الأنبياء عليهم السلام مع أقوامهم تغيير هرم القيم لديهم ليعطوا الحجارة والشمس والقمر وبعض الأشخاص قيمتهم الحقيقة في مقابل ما يقدمونه لهم، في معادلة الأسباب في مقابل رب الأسباب سبحانه. حتى أن المجتمع المسلم كان ثورة على نظام قيمي اجتماعي ساد في العالم لا يكون فيه التفريق بين الناس بناء على مراتبهم الاجتماعية وطبقاتهم الاقتصادية، لأن القيمة الأساسية التقوى " إن أكرمكم عند الله أتقاكم".

مع دخول شبكة الانترنت ثم وسائل التواصل الاجتماعي بدأت تلك العادة البشرية بإعطاء الأهمية لصاحب القيمة القيمة بالتحول نحو قيمة لم تكن البشرية تعطي لها ذلك القدر من الأهمية، ألا وهي "التسلية" والتي يمكن أن نعرفها بكونها "بذل الوقت فيما ينسي الإنسان واقعه". فنشأ سوق للتسلية كبير، قدم فيه الإنسان لنفسه في السنوات العشرين الأخيرة -ليسلو- ملايين أو مليارات المواد التي تهدف إلى خطف اهتمام المشاهد وتسليته عما يعيشه. وتعلقنا بتلك المسليات مبرر بقولنا " الحياة صعبة وقاسية فدعونا نتسلى".

بعضهم يجعل الدين عدته التي يستخدمها لإدامة عجلة التسلية!!، فهو وإن ظهر للبعض من الخارج بمنظر الداعية أو العالم أو المفكر لكنه في الحقيقة كمثل غيره بائع في السوق، اليافطة مختلفة والأسلوب مختلف، إلا أنه يبيع ذات البضاعة

إحدى عجلات تلك الماكينة التسلوية مجموعة من الممثلين رديئي التمثيل، يسمونهم اليوم بالـ"المؤثرين"، يعملون في وسائل التواصل المختلفة تحت هدف واحد، أن يبقوك متسمراً أمام شاشتك الصغيرة أو الكبيرة أكبر قدر ممكن من الوقت لتتمكن تلك المواقع من تبليعك أكبر قدر ممكن من الإعلانات حول المنتجات والتطبيقات المختلفة حتى تشتري، فيقبضوا هم مالاً من المعلنين فيعطوا بعضه لأولئك الممثلين ليبقوك أمام الشاشة وهكذا في دورة لا تنتهي من "التسلية" اللامتناهية.

ربما تختلف العدة التي يستخدمها "المؤثر" في التسلية، بعضهم يستخدم الرياضة أو الطهي، وبعضهم يستخدم التجميل، البعض يسلّع نفسه وعائلته، والآخر يجعل موضوعه المارة في الشارع.  حتى إن بعضهم يجعل الدين عدته التي يستخدمها لإدامة عجلة التسلية!!، فهو وإن ظهر للبعض من الخارج بمنظر الداعية أو العالم أو المفكر لكنه في الحقيقة كمثل غيره بائع في السوق، اليافطة مختلفة والأسلوب مختلف، إلا أنه يبيع ذات البضاعة، وتصيبه نفس الأمراض النرجسية، ويعبد ذات "الإعجاب" و"المشاركة" والـ “ اكسبلور".

المعظم في وقت الأزمات صار يميل إلى قيمة التسلية المنسية بدلا من قيمة الأمان أو النظام المغيرة، لا يهمه ما يحصل إذا كان في يده هاتفه، ولا يأبه بما يدور حوله ما دامت التسلية له متاحة

"أليس على وسائل التوصل مفيدون؟!"، صحيح، الكلام في الأعلى لا يشمل كل من هو على وسائل التواصل بل هو عن أولئك الذين أصبح عملهم وسائل التواصل، الذين يحتاجون إلى النشر اليومي، والتعليق اليومي بل الساعي، أولئك الذين صارت حيواتهم الشخصية مرتعاً لكل من يريد ويشتهي، وصارت كل كلمة منهم بحثا عن التيار" الترند"، وكل حركة منهم غايتها الوصول إلى المتابعين، ولا يتركك في أي مقطع دون أن يشحذ منك الإعجاب والمشاركة!

المضحك المبكي أن البعض -بل المعظم- صار يميل إلى منح إلى وضع أولئك المؤثرين في أعلى سلم القيمة، يسألونهم عن آرائهم في شؤون حياتهم، وينتظرون تعليقاتهم على الواقع السياسي والاقتصادي، لقد جعلناهم فعلا كهنة لمعبد الترند، نتقرب إليهم بالمشاهدات والإعجابات ليدلوا إلينا بآرائهم البديعة حول آخر صيحات الموضة. لقد تحولت البشرية فعلا، فالمعظم في وقت الأزمات صار يميل إلى قيمة التسلية المنسية بدلا من قيمة الأمان أو النظام المغيرة، لا يهمه ما يحصل إذا كان في يده هاتفه، ولا يأبه بما يدور حوله ما دامت التسلية له متاحة.  لأنه تعود على تلك المخدرات فأصبح مدمناً، والمدمن لا يأبه للدنيا إن كانت في يده جرعته.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.