شعار قسم مدونات

محتوى "البِطْنة" الرائج!

التكسب أصبح مرغوبا لدرجة تجعل البعض يظهر أطفاله على الشاشة ليقوموا بالطهي تحت إشرافه ليتحصل على المزيد من الإعجابات وربما المال (بيكسابي)

تكاثرت خلال السنوات العشر الماضية مدونات الطعام المرئية التي انتقلت من كونها وسيلة لتعليم الطهي المنزلي إلى تجربة كاملة يحاول في بعضها المدون نقل مشاعره حول الطعام أو تقييمه أو تحديد ما أعجبه فيه أو عكس ذلك. ويحاول بعضهم أن يسهل الخطوات أو يسرعها، ليوفر عليك ثلاث دقائق من يومك المشغول، بينما يحاول البعض أن يقنعك أن الطريقة التي كنت تطهو بها خلال السنوات العشرين الماضية ليست صحيحة، وأنه اكتشف "سر الخلطة" الذي سينقل مذاق الباذنجان إلى أعماق مستشعرات الطعم في لسانك، الأمر الذي سيدفعك إلى ضرب الطاولة بكفك عدداً من المرات بعد تذوقه، لتعلن للعالم توبتك من الطريقة السابقة، والالتزام بنهج هذا المدون العظيم الذي كشف أن زيت الزيتون في القلي ألذ من زيت السيارات!

صرنا نرى مقاطع لمن يفترض أنهم يعملون كمقيمين للطعام يصفون تجاربهم في المطاعم والمطابخ وغيرها بأربعة أو خمسة أوصاف فقط، لا يزيدون عليها . هذه الأوصاف  التي -إن افترضنا صحتها- أصبحت مكرورة لدرجة مقرفة

هذا الاهتمام المفرط بالطعام ليس غريبا عن ثقافة التفرج الحديثة، والتي تجد في مدونات الطعام إشباعا لشهوة حلال من حيث المبدأ، ولا ترتبط بها تبعات اجتماعية مثل غيرها. بل إن التكسب بها أصبح مرغوبا لدرجة تجعل البعض يظهر أطفاله على الشاشة ليقوموا بالطهي تحت إشرافه ليتحصل على المزيد من الإعجابات وربما المال، لما للأطفال من ميزة في استجلاب عطف المشاهدين بتعبيراتهم اللطيفة التي يقوم الأهل بتلقينها لهم، وليس من هدف فعلي من إظهار الأطفال يطبخون إلا جمع التفاعلات، في ظاهرة أصبحت تقارب عمالة الأطفال في أوائل القرن الماضي، وقد ظهرت بعض المقاطع تظهر إجبار بعض "المأثرين" أطفالهم على إعادة المقطع أكثر من مرة ليأتوا بلقطة أفضل في ظل تذمر الطفل وربما بكائه.

إحدى المشاكل الأخرى التي تعاني منها برامج "البطنة" هذه هي كونها فقيرة لغويا لدرجة تندى لها البطون، الكلام عن الطعام مهم في كل الحضارات، الإنسان استخدم كل ما أمكنه من وسائل للحديث عن الطعام، فكتب على الورق وتكلم في الأسواق بل حتى رسم على حوائط قديم الحضارات بألوان مختلفة ليوصل لمن أمامه ذلك الشعور الذي أحس به عندما استقبل لسانه دفقة ساخنة من ذلك الحساء أو لقمة سائغة من ذاك اللحم الطري. ومع انفجار وسائل التواصل انفجر معها الحديث عن الطعام، لكن المزعج أن هذا الانفجار في الحديث عن الموضوع لم ينفجر معه دفق لغوي كاف ليغطي تلك الكمية الإعلامية المهولة.

لذلك صرنا نرى مقاطع لمن يفترض أنهم يعملون كمقيمين للطعام يصفون تجاربهم في المطاعم والمطابخ وغيرها بأربعة أو خمسة أوصاف فقط، لا يزيدون عليها . هذه الأوصاف  التي -إن افترضنا صحتها- أصبحت مكرورة لدرجة مقرفة، فكل الطعام "رائع ورهيب"، وكل الدجاج "كرسبي" ، وكل اللحم "جوسي" وكل البطاطا "خطيرة ومقرمشة"، دون النظر إلى القاموس العربي الغني الذي يصف أنواع الطعم وأشكال الأطباق، بل ويحدد مقادير الوصفات بدقائق لم تخطر على بال من يطبخون اليوم.

الإكثار من وصف الطعام كل يوم وكل ساعة وكل تمريرة شاشة بهذه الطريقة ينقل الطعام من كونه أداة لإشباع حاجات طبيعية إلى كونه غاية يسافر الإنسان لأجلها، ويمضي يومه في تعقبها، ويحشو محتواه البطيني في وجه كل من يستطيع ولا يستطيع

انظر معي إلي وصف محمد بن الحسن البغدادي لطبق الجرجانية ( وهي أكلة تشبه الثريد) في كتاب الطبيخ  في القرن السابع الهجري ، وانتبه معي إلى تعدد الأفعال والأوصاف لكل خطوة:

والجرجانية "صنعتها أن يُقطع اللحم أوساطا ويترك في القدر ويجعل عليه غمرة ماء ويسير ملح. ويقطع بصل قطعا لطافا، فإذا غلى غلية جعل البصل فوقه، وكسفرة يابسة وفلفل وزنجبيل ودار صيني مدقوقة ناعما. ومن أحب عجل فيها جوزا مقشرا قد أخرج خشبة من جوفه مقطعا وسطا. ثم يحرك حتى تنضج الحوائج. فإذا نضجت يؤخذ حب رمان حامض وزبيب أسود نصفين يدق ناعما ويمرس بالماء، ويصفى على منخل صفيق، ثم يلقى في القدر. وليكن معه شيء يسير من خل، ويربى باللوز المقشر المدقوق ناعما، ثم يلقى في القدر. فإذا غلي وقارب النضج، حلي بقليل سكر بقدر الحاجة. ويرمى في رأس القدر كف عناب، ويرش عليها قليل ماء ورد ثم تغطى حتى تهدأ على النار وترفع".

هل الحديث عن الطعام بذاته إشكالية؟ بطبيعة الحال لا، فالنص الماضي يستخدم الأصاف المتعددة والأفعال المختلفة ليحدد خطوات عملية تساعد من سيطبخ، إلا أن الإكثار من وصف الطعام كل يوم وكل ساعة وكل تمريرة شاشة بهذه الطريقة ينقل الطعام من كونه أداة لإشباع حاجات طبيعية إلى كونه غاية يسافر الإنسان لأجلها، ويمضي يومه في تعقبها، ويحشو محتواه البطيني في وجه كل من يستطيع ولا يستطيع، فيحس القادر وغير القادر بالعجز عن الوصول إلى أطعمه لم يدروا أساساً بوجودها، ولم يروا شكلها إلا قبل ستين ثانية مضت، فتصبح الحياة علىى زيادتها في نقص مستمر، ويصبح طعامنا الذي كبرت عليه وبه أجيال من قومنا قديما بحاجة إلى زيت الكمأ الفرنسي لنتمكن من النظر في وجهها!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.